مسلسل الانقلابات في مالي
مسلسل الانقلابات في مالي
كتب: باسم ثروت
لا ينفك الأفق الإفريقي أن يتعكر كل مدة قصيرة من الزمان، لا سيما بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في مالي مطلع أغسطس من هذا العام، الذي يعد ثاني انقلاب تشهده مالي خلال تسعة أشهر، حيث قاد العقيد أسيمي غويتا الانقلاب مرة أخرى واستولى على السلطة معللاً بأن الرئيس باه نداو ورئيس الوزراء مختار عوين فشلا في أداء مهامهما، وكانا يريدان تخريب عملية التحول في البلاد.
بداية قبل الشروع في أي تحليلات يمكننا معرفة مدى التشتت والتخبط الذي تعاني منهم مالي، في ضوء سلطة عسكرية ترى أن لديها اليد العليا على مقادير ومجريات الأمور، فإذا لم تكن الحكومة والرئيس تحت تصرفهم انقلبوا عليه.
لم تستطع هذه الدولة الإفريقية الحبيسة، منذ استقلالها عن فرنسا في سبتمبر 1960، تحقيق الاستقرار والأمن والتنمية الاقتصادية فقد شهدت منذ ذلك التاريخ 5 انقلابات عسكرية (1968-1991-2012-2020-2021) بالإضافة إلى عدة اضطرابات أمنية وعملية تمرد قادها الطوارق في أوائل التسعينيات.
لعل هذا الإخفاق الشديد في مالي شأنه شأن معظم الدول الإفريقية التي تفتقر إلى التفاهمات والثقة بين المكونين العسكري والمدني، ويعزو الخبراء هذا الشتات الشديد إلى الحدود الموروثة عبر الحقبة الاستعمارية التي لم تراعِ التقسيم العرقي والقبلي للسكان، الأمر الذي يشعل الصراعات والتناحر المستمر بين الأطراف.
إضافة إلى ذلك تدخل القوى الغربية وخصوصاً فرنسا في مسارات وسياقات السياسة في مالي، الأمر الذي يؤدي إلى رفض شعبي ويؤجج القوة العسكرية للانقلاب على السلطة فتلقى ترحيباً وتأييداً عادة لا يستمر وتعود البلاد لانقلاب آخر فيما بعد، كما أن الظروف الاقتصادية والفساد وتدني مستوي المعيشة لاعبون أساسيون في حلقات مسلسل الانقلاب المالي.
على شاكلات الدول العربية والسودان اخترق الإسلاميون المتشددون والجهاديون أنظمة العديد من الدول الإفريقية منها مالي ففي عام 2012 بعد الانقلاب الثالث، أفسح هذا الانقلاب المجال للإسلاميين المتشددين لاستغلال الفوضى والسيطرة على شمال البلاد وساعدت القوات الفرنسية آنذاك في استعادة هذه المناطق، لكن الجماعات المتطرفة وصلت هجماتها بسبب الاضطرابات السياسية المستمرة داخل البلاد.
والواضح أن مواقف الدول الكبرى وعلى رأسها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا وبريطانيا من الأوضاع في مالي كفيلة بأن تُدخل مالي في نكبات متفاقمة، ففي تقارير سابقة أشارت إلى أن اتفاق العقيد غويتا مع شركة فاجنر الروسية لإرسال مرتزقة إلى مالي أثار حفيظة فرنسا، ما دفع العلاقات الفرنسية مع مالي للتأزم وعبرت باريس عن قلقها حول وصول مرتزقة فاجنر الروس إلى مالي.
كما عبر ماكرون في وقت لاحق أمام قمة إفريقيا- فرنسا مونبيليه أن باريس أرادت مغادرة القواعد في مالي في أقرب وقت ممكن، وتنظر باريس لوجود قوات روسية شبه عسكرية على أنه أمر غير متوافق مع انخراط فرنسا العسكري في مالي.
ويبدو أن العسكريين في مالي يرغبون في إظهار قدرتهم على البحث وانتقاء حلفاء عسكريين آخرين حسب ما يلائمهم، وتأكيد فكرة أن مالي لديها الحق للبحث عن شركاء آخرين.
ولم تقتصر فكرة إخراج القوات العاملة في مالي على فرنسا فقط، فقد صرحت ألمانيا التي لديها قوات عاملة في مالي، بأنها ستعيد النظر في انتشار قواتها إن واصلت مالي الاتفاق مع فاجنر الروسية واتخذت استونيا التي لديها قوة مكونة من 100 جندي تقريباً في مالي نفس الموقف، فقال وزير دفاعها إن استونيا ستفكر في سحب قواتها إذا واصلت مالي اتفاقها مع فاجنر.
والأسئلة ستظل قائمة في حالة مالي، دون المقدرة على تحديد أجوبة قاطعة، ومن شاكلة هذه الأسئلة: هل ستسلم السلطة العسكرية بقيادة غويتا السلطة بعد الفترة الانتقالية أم ستسعى للمماطلة وتأجيل الانتخابات المرجوة في فبراير 2022؟
ففي بداية الفترة الانتقالية تعهد غويتا بتسليم السلطة بعد عقد انتخابات في فبراير أو مارس 2022، وبناءً على هذا التعهد تم اختيار باه نداوه رئيساً للفترة الانتقالية وتم تعيين غويتا ذاته نائباً للرئيس وشكلت حكومة مختلطة بين العسكريين والمدنيين.
وبسبب عدم الثقة واليقين بين المكونين العسكري والمدني وبسبب تغيرات وزارية قام بها المكون المدني استبعد فيها بعض العسكريين من السلطة انقلب غويتا للمرة الثانية ونزع من المكون المدني السلطة في أواخر مايو 2021، وتولى غويتا السلطة.
وهناك مؤشرات ودلالات قوية توضح أن غويتا لن يفي بتعهداته وأنه سيسعى لتأجيل الانتخابات، فقد أولى العسكريين مهام الوزارات المهمة ما يوفر له الدعم منهم في حال رغب في المماطلة وتأجيل الانتخابات، بالإضافة إلى العسكريين استطاع غويتا كسب ثقة الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني، بعد تعيين رئيس اللجنة الاستراتيجية لتحالف “حركة 5 يونيو- تجمع القوى الوطنية” M5-RFP رئيساً للوزراء، بالإضافة إلى بعض الوزراء الذين يمثلون قوى مدنية أخرى، وهو ما يضمن له موالاة الأحزاب والنخب السياسية وتأييدهم له.
إجمالاً، المشهد في مالي كمثيلته في السودان معقد ومتشابك للغاية، القوى العسكرية لن تقبل أي تهميش أو إبعاد عن السلطة بأي شاكلة، فما أبلغت به السلطات في مالي وفد مجلس الأمن بأنها ستُجري مشاورات وطنية من أجل الإصلاح في ديسمبر 2021م.
وحينها سيتحدد مصير الانتخابات، يُنذر بأن إنهاء المرحلة الانتقالية والذهاب إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في فبراير 2022، أصبح من المعجزات وخاصة أن أي انتخابات ستجري في ظل هذه المساقات والمسارات المتأزمة قد يفقدها شرعيتها كلياً أو جزئياً، ما قد يدخل البلاد في صراعات تعطل مسار بناء الدولة والتحول الديمقراطي، ومع اتساع هوة عم الثقة بين المكونين العسكري والمدني يكون من الصعوبة التفاؤل بشأن مستقبل مالي في الزمن القريب.